الحقيقة بخصوص البوم- آمال المهتار

نُشرت هذه القصّة أولًّا في (Kaleidoscope (Twelfth Planet Press, 2014، وفازت بجائزة لوكوس الأدبية  عن فئة أفضل قصّة قصيرة للعام 2015 . هذه ترجمة عن النسخة المنشورة في مجلة Strange Horizons.

by Jackie Morris
by Jackie Morris

الحقيقة بخصوص البوم – آمال المهتار

ترجمة: سلمان الجربوع، مراجعة: أسامة المهتار

– إلى تيسا كم

للبوم عينان تلائمان السماوات التي يصطاد من خلالها. بوماتٌ بعيونٍ كهرمانيّة تشرع في الصيد عند الفجر أو وقتَ الغسق؛ بوماتٌ بعيون ذهبيّة تصطاد خلال النهار؛ بومات بعيون سوداء للصيد في الليل.

لا أحد يعلم لماذا.

عينا أنيسة سوداوان، ولم تعدْ تكرههما. كانت تتمنّى عينين بلونِ عيني أبيها، جميلتين زرقاوين بخضرةٍ باهتة يجفل الناس دائمًا إذ يرونها على وجهٍ بنيّ. لكنّها تحبّ، الآن، أن يكون لها عينان وشعرٌ بلونٍ يجده أولئك الناس بعينهم مريعًا.

حتى معلّماتها يرتبكن أمامها، لقد بدا لها أنهنّ لا يحاولن أن يُسيّرنها بذات الطريقة التي يرعين فيها مجاميعَ الطلّاب الآخرين. تراهنّ يُلقين عليها نظراتٍ مرتابة قبل أن توجّه كلُّ واحدةٍ قطيعَها من معرض بومٍ إلى آخر، بينما يتبعن الدليل. إنّها تميل عادةً للذهاب في الاتجاه المعاكس.

“آني سا! آني، الطريق من هنا”

تلتفت أنيسة، صارّةً على أسنانها. السيدة روبرتس- بوجهها الشاحب المصبوغ بالمساحيق، شعرِها الأصفر المسرّح إلى أعلى وشفاهها ذات الحمرة اللامعة والتي تجعل أنيسة تفكّر بكيكة فيكتوريا- تبتسم مستحثّةً إيّاها على المضيّ.

“اسمي أَ-نِي-سَة، في الواقع،” تردّ، وتشعر بالقوّة تختلج في صدرها وتمتدّ إلى ذراعيها، اللتين تتقاطعان سريعًا، ويديها، اللتين تأخذان شكل قبضتين، تحفران أظافرَهما في كفّيها. تتراجع القوّة، لكنّها ما تزال تشعر بها متدفّقةً من عينيها مثل أسرابٍ من النحل فيما تنظر إليها السيدة روبرتس بارتباكٍ وحيرة. عينا السيدة روبرتس زرقاوان، ذلك النوع من الزرقة الخزفيّةِ الرهيفة.

تشاهد أنيسةُ معلّمةً أخرى، الآنسة جريور، تحني رأسها لتُهمهم كلامًا في أذن السيّدة روبرتس. تبدو السيّدة روبرتس أكثر تحيُّرًا، لكنّها تستعيد ابتسامتها بشكلٍ مريب، تهزّ رأسها، وتعود إلى مجموعتها. تُغمض أنيسة عينيها، تتنفّس بعمق وتعدّ إلى عشرة قبل أن تمضي في حال سبيلها.

_____________________

البوم طائرٌ جارح، ثمّة بومات ستمزّقك إربًا لو منحتها نصفَ فرصة.

المركز الإسكوتلندي للبوم وجهةٌ مشهورة للرحلات المدرسيّة: رحلة باص قصيرة من غلاسكو، مكوّن تعليمي، فرصٌ كثيرة لالتقاط صور فوتوغرافية وعرضِها على الآباء، ومن لا يحبّ البوم هذه الأيام؟ تجد أنيسة نفسها تحملق أكثر من مرّة في صور البوم المطبوعة على قمصانٍ وحقائب، في الأقراط ومشابك الأحزمة المصمّمة على شكل البوم، في دمى البوم المحشوّة وتذكارات البوم المصنوعة من أسلاكٍ بألوانٍ أليفة وزاهية. تجدها كلَّها غريبةً للغاية.

تتذكّر أنيسة المرّة الأولى التي رأت فيها بومًا. كانت في السابعة من عمرها. عاشت مع أبيها وجدّيها في رياق (1) ، وفي ذلك الصباح الذي ثارت فيه غاضبةً على إلزامها بإطعام الدجاجات، الدجاجاتِ التي كرهتها بسبب رائحتها والطريقةِ التي كانت تهاجمها فيها بمناقيرها كلّما ذهبتْ لتجمع بيضها، وأيضًا بسبب الديك المهتاج ذي المهمازين الحادّين الناتئين من رجليه. كرهتْ الدجاج، صرختْ، ليتهم صنعوا منها شوربة وأراحوني.

أُوكِلت إليها مهامُّ إضافيّةٌ في المنزل، وقد قامت بها محتدّةً تخبط بقدميها الأرض وبيديها أبوابَ الخزانة وأحيانًا تبكي على المظلمة الواقعة عليها. “أما تزالين مغتمّةً بسبب الدجاجات،” يمزح أبوها محاولًا أن يجعلها تضحك، ويزيدها ذلك غضبًا لأنّها بالفعل أرادت أن تضحك لولا أنّها لم تشأْ أن يظنّ لوهلة أنها لم تعدْ مغتاظة، إذ كانت في الواقع مغتاظة.

قبل الغداء كانت قد هدأتْ ولم يأتِ العشاء إلا وقد نسيت ما حدث. لكن بينما تساعد جدّتها في الغسيل سمعت صرخةً آتيةً من فناء المنزل، هرعت جدّتها لتستطلع الأمر وتبعتها أنيسة بيدين يقطر منهما الصابون.

بومةٌ ضخمة، طويلة مثل سخلة، أطولُ من أيّ طائر سبق ورأته، جاثمةٌ على شجرة البرتقال، الديك خليطٌ من الدّم والريش تحت مخالبها. لحظةَ ما حدجتها أنيسةُ ببصرها، عطفتْ البومةُ رأسَها على حلق الديك وقطعت مِزْعةً طويلةً من اللحم.

عندما تفكّر أنيسة في ذلك، وكثيرًا ما تفعل، خصوصًا حين تكون يداها رطبتين ويقطر منهما الصابون، أطرافُ الأصابع على وشك أن تتغضّن- فإنها تتذكّر شعور الذنب. تتذكّر جدّتها إذ ترسم إشارة الصليب على صدرها وتصلّي حذارَ الأذى، خوفَ الموت في العائلة، ضدَّ الأوقات العصيبة. تتذكّر الخوف، تحديقَها المتواصلَ في أحمرِ الدّيك وزهريّه وأخضرِه، في رأسه المهشّم، والمتدلّي.

لكنّها لا تستطيع أن تتذكّر- رغم محاولاتها الكثيرة- ما إذا كانت قد شعرت، للمرّة الأولى، بوخزة القوّة الكهربائيّة الرهيبة في صدرها وهي تفيض إلى كفّيها.

__________________

ثمّة بوماتٌ تبحر في الهواء مثل سفنٍ مهيبة. ثمّة بومات ترفرف مثل حسَاسين من غصنٍ إلى غصن. ثمّة بومات تنظر إليك باحتقار وبوماتٌ تتمايل على ذراعك مثل قصَبَةٍ في الريح.

أنيسة لا تخاف البوم. تراه كائنًا مثيرًا للاهتمام بشكلٍ كافٍ، عندما لا يتغنّى به الناس ولا يطرّزون به وسائدهم. تعتقد، من خلال تمشّيها في المحميّة، أنّ البومةَ التي رأتها طفلةً كانت على الأرجح بومةَ نسرٍ أوراسيّة.

تتجّول من قفصٍ إلى قفص، ومن بيئةٍ إلى أخرى تتأمّل في بوماتٍ لا تشبه أيًّا من التشكيلات الجميلة المطرّزة على التنانير والفساتين- بومات تفتقر إلى ريشٍ يحيط عينيها، بومات بعيونٍ منتفخة ورؤوسٍ زغَبُها ناعمٌ وخفيف، بومات بحجم راحة يدها.

بعض البومات لها أسماء تتميّز عن فصائلها: ’هوسكِنج‘، ’برو‘، ’سَرابي‘. تتوقف أنيسةُ أمام عشّ بوم وتعبس عند اسمه. Blodeuwedd؟

“بلو- ديو- وِد” تتهجّى فتخرج الأصوات متقطّعةً تحت أنفاسها، بينما يطالعها البوم.

“إنّه بلوه- دا- وِذ، في الواقع،” يقول صوتٌ لطيف من خلفها. تلتفت أنيسة لترى مدرّبةَ بوماتٍ من عرض الطيران، امرأةً سوداء اسمها ’إزي‘. شعرها ملفوف في شالٍ زاهي الألوان، تدخل قفصًا كبيرًا، يداها في قفّازين تمسكان سطلًا مخصّصًا للإطعام. “إنه يعني ’وجه- زهرة‘ في اللغة الويلزيّة.

يحمرُّ خدّا أنيسةَ خجلًا. تنظر إلى البوم من جديد. لم يحدث ورأت بومَ الزرائب من هذا القرب، ولا تظنّ أنّه يشبه الأزهار؛ ترى أنّ وجهه الذي يأخذ شكلَ قلبٍ غريبٌ ومخيف وجميل، كلّ ذلك في نفس الوقت، ويشبه أن تشاهد القمر بينما تغرب الشمس، وأنّه يجب أن تكون هناك مفردة لتصف لون جناحيه الذي يحاكي لمعانَ لؤلؤةٍ وإن لم يكن لؤلؤيًّا.

تسأل، “أَذكرٌ هذا البوم أم أنثى؟”

“هل تعلمين قصة ’بلودوذ‘ Blodeuwedd؟” تبتسم إزي. “كانت امرأةً جميلة، مخلوقةً من الزهر، مُسختْ إلى بومة”.

تقطّب أنيسة حاجبيها. “ذلك لا معنى له”.

“إنّها قصةٌ في كتاب حكايات خياليّة يدعى ’المابنجون‘ The Mabinogion يجمع أساطيرَ من التراث الويلزيّ- ولا يُعنى كثيرًا بأن يكون منطقيًّا أو أن يكون لحكاياته معنى” تضحك إزي ضحكةً خافتة. “لا أحسبها تستلطف اسمَها أو حكايته لأكون صادقة. إنّها واحدة من أصعب طيورنا. لكنّها أتت إلينا من ويلز، فمنحناها اسمًا ويلزيًّا.”

تحدّق أنيسة في عيني بلودوذ. إنّهما أحلك سوادًا من عينيها.

“أحبّها”، تصرّح بشعورها.

____________________

يسمّى سرب البومات ’برلمان‘

البوم نذير شؤم

كان الصيف الذي رأتْ فيه أنيسةُ البومةَ تقتل الديك هو ذاتَ الصيف الذي قذفتْ فيه إسرائيلُ البلدَ بالقنابل. دائمًا ما تفكّر بالأمر على ذات النحو، لا كحرب- لا تتذكّر حربًا. لم تشهد قطُّ عراكًا. تتذكّر صوتًا أحسّته أكثر من أن تكون سمعتَه، ارتطامٌ هزّ الأرض وجلجل في عظامها- ثمّ ارتطامٌ آخر- ثمّ رائحةٌ تشبه رائحة طباشير، قبل أن تَهرع إلى ذراعي أبيها ويُهرَع بهم إلى الملجأ.

تتذكّر شعورها بالبرد، تتذكّر، فيما بعد، الغضبَ، النواح، الحوارات نصفَ المسموعة من سريرها، صوتَ أمّها يصلهم من لندن على هيئة نشيجٍ متقطّع، روبوتيّا ومخنوقًا عبر اتصال الإنترنت الضعيف، خليطٌ من الإنجليزيّة والعربيّة، لكناتٌ تتبادل الأماكن. صوت أبيها هادئٌ على الدوام، موزون، لكن بشيء من التوتّر، كاليوم الذي وضع فيه ابنُ عمّها سلكًا عبر ساق ضفدعٍ ميّت ليجعله ينتفض.

تتذكّر أنّها سألتْ جدّتها إن كانت الغارةُ الإسرائيليّة بسبب البومة، ضحكتْ جدّتها بطريقةٍ جعلتْ أنيسةَ تشعر بالفراغ والضياع.

“أُشش شش، لا تخبري إسرائيل! بومةٌ قتلت ديكًا- ذلك سببٌ أكثر منطقيّةً للاعتداء! بومةٌ قتلت ديكًا في لبنان ولم تفعل الحكومة شيئًا حيال ذلك! بسرعة، دمِّروا الجسور!”

غرقتْ العائلةُ كلُّها في الضحك. أنيسة كانت مرعوبة، ولم تخبر أحدًا.

___________________

لماذا لم يغازل البوم في المطر؟ لأنّه كان مبللًا لدرجة أنّه لم يستطع أن [يقول] وو woo (ينعب/ يغازل). (2)

“ما الذي يجعلها صعبةَ المراس؟” تسأل أنيسةُ وهي تشاهد البومة بلودوذ تتمايل على غصنها. فيما ترمقها إزي بمودّة.

“حسنًا، لقد تحصّلنا عليها كطائرٍ محتملٍ للمشاركة في العروض، لكنها لم تتجاوب بشكل جيّد مع التدريبات- إنها تهسُّ ممتعضةً في وجوه المدربين حين يمرّونها، وتحاول أن تعضّهم. كما أنّها شرسة في الدفاع عن منطقتها وفي غاية الجنسانيّة، لا تتسامح مطلقًا مع وجود أيّ طائرٍ ذكر في محيطها، لذا لا نستطيع الاستفادة منها في عمليّات التكاثر”. تعرض إزي على بلودوذ قطعةَ دجاجٍ نيئة فتزدردها بهدوء.

“لكنّها تستلطفك.”، تلاحظ أنيسة. فتبتسم إزي في حزن.

“أنا لست في طاقم تدريبها. سهلٌ أن نستلطف أناسًا لا يطلبون منّا شيئًا”. تتوقّف إزي عن الكلام لوهلة، وتطالع بلودوذ بحرصٍ مبالغٍ فيه. “أو على الأقل، من السهل ألّا نكرهَهم.”

قبل أن تغادر أنيسةُ مع باقي فصلها، تدوّن لها إزي اسمَ كتاب الحكايات Mabinogion ’مابنجون‘ على قصاصة ورق، وتخربش برشاقة وجهَ بومةٍ داخل زهرةٍ بخمس بتلات، وتدعوها لمعاودة الزيارة.

________________

البوم كائنٌ ثنائيّ الشكل Dimorphic (يمكن تمييز جنسه من خلال شكله الخارجيّ): الأنثى عادةً أكبر، وأقوى، وأزهى ألوانًا من الذكر.

أمّ أنيسة طويلة، وبيضاء، وأنيسة لا تشبهها في شيء. شعر أمّها البني خفيفٌ ورقيق وينسدل ناعمًا؛ جلد أمّها باهت البياض. اعتادت أنيسةُ على الناس وهم يفترضون أشياء عنها- هل أنتِ متبنّاة؟ هل تلك المرأة زوجة أبيك؟- حين يرونهما معًا، لكنّ عملَ أمّها الجديد في الجامعة جعل من خروجهما معًا أمرًا نادر الحدوث. في الحقيقة، منذ الانتقال إلى غلاسكو، فإنّ أنيسة بالكاد تلتقي أمَّها في البيت، إذ تكون الأخيرة مرتبطةً بمحاضرات مسائيّة ومسؤوليّات إدارية.

“ماذا تقرئين؟” تسأل أمّها مرتديةً معطفها بعد تناولهما عشاءً سريعًا.

أنيسة، بساقين مثنيّتين تحتها على الأريكة، تحمل نسخةَ المكتبة من ’المابنجون‘. تبدو أمّها مشتّتةَ الذهن، لكنّها تهزّ رأسها، تتمنّى لها ليلةً هانئة، وتغادر.

تقرأ أنيسةُ كيف أنّ ماث، ابن ماثونوي، جمع الأزهارَ المتفتّحة لتوّها، أزهارَ السنديان، وإكليلِ المروج، ونسّقها في صورة امرأة. تتساءل، عبثًا، أيّةُ زهورٍ يا ترى يمكن أن تُجمع لتخلقَ امرأةً على صورتها.

_____________________

البوم موجودٌ في كلّ قارّات العالم ماعدا القطب الجنوبي.

ما تسمّى حربًا استمرّت ما يزيد على شهر؛ تعلّمت أنيسة كلمة “وقف إطلاق النار” في أغسطس. أرسلها أبوها إلى لندن في اللحظة التي عادت فيها المطارات إلى العمل بعد أعمال الترميم.

قبل أن تبدأ السنة المدرسيّة، أخذتها أمُّها جانبًا. “حين يسألك الناس من أين أنتِ،” أخبرتَها، “قولي من ’إنجلترا‘، مفهوم؟ أنتِ مولودة هنا. لك كلّ حق في أن تنتمي هنا مثل أيّ شخص آخر.”

“أبي لم يولد هنا.” أحسّت بلسعة في حلقها وعينيها، ألمُ ’يا حيف‘. “هل هذ هو السبب في أنّه ليس هنا؟ أليس مسموحًا له أن يأتي؟”

لا تتذكّر أنيسةُ ما قالت أمُّها. لا بد أنها قد قالت شيئًا ما. أيًّا ما كان، فإنّه دون شكّ لم يكن شيئًا مثل أنّها لن ترى أباها شخصيًّا لثلاث سنوات.

_______________

ذات مرّةٍ كانت الكلمة الويلزيّةُ الدالّةُ على البوم تعني “وجه-زهرة”.

عندما قالت إزي إن بلودوذ كانت مخلوقةً من الزهر، تخيّلتْ أنيسةُ ورودًا وزنابق، أزهارًا كانت مجبرةً أن تقرأ عنها مرّةً بعد أخرى في دروس الأدب الإنجليزي. لكن بينما تذهب في القراءة، تتعرّف أنّه حتى أسماء الزهر الذي خلقتْ منه بلودوذ غريبةٌ عليها- أيّ نوع من الزهور تكونه “زهرة اللزان المكنسيّ”- وتحبّ ذلك، تحبّ أنّه لا شيء في بلودوذ مألوف أو متوقّع.

بدأتْ أنيسةُ تعليمَ نفسها الويلزيّة، غالبًا لأنّها تريد أن تعرف كيف تُنطق كلُّ الأسماء الواردة في كتاب مابنجون. يعجبها أنّ ثمّة لغةً تشبه الإنجليزيّة وتُسمَع كالعربيّة، تحبّ أنْ لا أحد يُدرّسها أو يُعلّق على لكنتها، أو يسألها أن تتحدثّها لتسليته. يروقها أنّ حرف “f” (ف) مفردًا ينطق”v” (ﭪ)، أنّ “w” (و) حرفُ علّة، أن ألفبائيّةً من الأسرار مخفيّةٌ على مرمى البصر.

إنّها تزور مركز البوم الآن كلَّ نهاية أسبوع، تحسّ أنّها أدّتْ واجبَها إنْ شاركت شيئًا من كتاب مابنجون مع إزي وبلودوذ، مقابلَ حقيقةٍ علميّةٍ عن البوم.

__________________

البوم طائر من رتبة البوميّات ‘Strigiformes’، كلمة مشتقّة من جذرٍ لاتينيّ وتعني في الأصل: ساحرة.

خلال أوّل عامٍ دراسي لأنيسة في إنجلترا، مالتْ ناحيتها فتاةٌ منمّشة بشعرٍ أصفر فيما المعلّمة قد أعطت ظهرها للصفّ، وسألتها إن كان أبوها ميّتًا.

“لا!” خزّتها أنيسةُ بنظرها.

“أمّي قالت إنّ أباك قد يكون ميّتًا. بسبب الحرب. بسبب أنّ هناك دائمًا حربًا في البلاد التي جئتِ منها”.

“ذلك غيرُ صحيح.”

ضيّقتْ الفتاة ذاتُ النمش مدارَ عينيها. “كذا قالت أمّي.”

شعرتْ أنيسةُ بنبضها يتسارع، وبيديها ترتعش. لم تشعر أنّها كرهتْ أحدًا في حياتها كلّها مثلما تحسّ الآن تجاه فتاةِ المعجّنات الحمقى هذه. تأمّلتها وهي تهزّ كتفيها بلا مبالاة منصرفةً عنها.

“ربّما أنّك لا تفهمين الإنجليزيّة، وهذا كلّ ما في الأمر.”

شعرتْ بشيء ينحلُّ داخلها. نهضتْ أنيسة من كرسيّها وزجّتْ بالفتاة بعيدًا عنها، شعرت، في اللحظة التي لامس فيها الجلدُ الجلد، بصدمةٍ كهربائيّة مروّعة؛ تلاشى نمشُ الفتاة من ورديّ خدّيها، وبدلًا من أن تقفَ في وجه الدفعةِ، صرختْ “آخ، لقد صعقتني!”

في ذاكرتها أنّ توبيخ المعلّمة وعواقب فعلتها وبقيّة السنة كلِّها ذابت في صورةٍ شرّيرةٍ مُرضية: الفتاةُ ذاتُ النّمش ترمقها ويطفر الرعب من عينيها الزرقاوين، على وجهها المتورّد الجميل.

تعلّمت أن تصقلَ مظهرًا خارجيًّا يوحي بالخطر، بالتهديد؛ تعلّمتْ أنّه بالاقتصاد في النظرة، في الإشارة، في التلميح، يمكن أن يهابها الآخرون ويتركوها وشأنَها. إنّها البنت التي جاءت من الحرب، البنت التي مات أبوها، البنت ذات الجبروت. ذات يوم حاول ولدٌ أن يقبّلَها، دفعته عنها، تطلّعت في عينيه مباشرةً، ورمتْ وجهَه بملءِ قبضةٍ من لا شيء، برذاذٍ من هواء. لقد غاب عن المدرسة بعدها ليومين؛ وحين عاد مدّعيًّا أنّه أصيب بالبرد، كان كلّ واحدٍ يقرّ مستيقنًا أن أنيسةَ هي السبب. وحين طلب منها بعض الطلاب أن تتسبّب في غيابهم عن قصد، ليفوّتوا اختبارًا أو واجبًا، فإنّها تكلّفت ابتسامةً، صمتتْ، ومشتْ بعيدا.

_____________________

للبوم حقلُ رؤيةٍ ثنائيّة (باستخدام كلتا عينيه) محدود؛ يستعيض عن ذلك بإدارة رأسه إلى غاية 270 درجة.

بعناية، تخفض إزي ذراعَها إلى مستوى رسغ أنيسة المغطّى بالقفاز، تثبّت الرسن إلى الحلقة المعدنيّة المتدليّة منه، وتراقب بلودوذ وهي تقفز بخفّة إلى ساعد أنيسة، تتنفس أنيسةُ الصعداء وتبتسم ابتسامةً عريضة. تردّ عليها إزي بابتسامةٍ مشابهة.

“لا أصدّق كم هي سهلة القياد، إنّها حقيقةً مرتاحةٌ معك بصورةٍ مفاجئة.”

“ربّما،” تقول أنيسة، في شقاوة، “بسبب أنّني ممتازةٌ جدًّا فيما يخصّ عدمَ طلب أيّ شيءٍ منها.”

“أكيد،” تقول إزي، “أو ربّما لأنّك تتكلمين بشكلٍ مستمّر عن مقدار كراهيّتك لماث، ابن ماثونوي.”

“أوو، ذلك الوغد!”

تضحك إزي، وتحبّ أنيسة أن تسمعَها، أن تراها وهي تقذف برأسها إلى الخلف عندما تضحك. تحبّ كم هو كثيف ومتلفلفٌ شعرُها، والأشياء المختلفة التي تفعلها به- اليوم هو نصفُ مربوطٍ في وشاحٍ أبيض وبنفسجيّ، منتفشًا من الخلف مثلَ باقة ورد.

“إنّه الأسوء على الإطلاق،” تواصل حديثها. “يقطف الزهور ويأمرها أن تكون امرأة؛ وحالما تقوم بفعلٍ لا يعجبه، يحولّها إلى بومة. إنّه كمثل من يحتاج إلى أن يبقى متحكّمًا بحكايتها، فيقوم بتغيير شكلها.”

“حسنًا. ولكن لنكون عادلين، فإنّها حاولت أن تقتل ابنه بالتبنيّ.”

“لقد غصبها على الزواج به! إنّه حقير هو الآخر!”

“أنت متحمّسة جدًّا لهذه الحكاية، جدًّا متحمّسة.”

“كلّ ما في الأمر أنّني-” تعضّ أنيسة شفتَها، ناظرةً إلى بلودوذ، رافعةً إيّاها مقدارًا ضئيلًا لتخّفف من ثقلها على ساعدها، تشاهد كيف تبسط جناحيها الرائعين، ثمّ تعود إلى سكونها، “- أحيانًا- أشعر أنّي لست سوى مجموعة رقاقاتٍ صغيرة من أشياءَ جمعها أحدٌ ما بشكل فوضويّ وسمّاها بنتًا، ثمّ ’أنيسة‘، ثمّ- ” تهزّ كتفيها. “أيّ شيء.”

لبرهةٍ تبدو إزي هادئة. لكنّها سرعان ما تقول، بتأمّل، “تدرين، ثمّة كلمةٌ أخرى لوصف ذلك.”

“لوصف ماذا؟”

“ما تحدّثتِ عنه قبل قليل- لملمةُ أشياءَ متباينة. مقتطفات. ذاك ما يكونه كتاب ’المابنجون‘ في آخر الأمر، مقتطفاتٌ أدبيّة.”

أنيسة غير مقتنعة. “بلودوذ ليست سوى جزءٍ من حكاية شخص آخر، إنّها ليست مقتطفات في ذاتها.”

تبتسم إزي، بلطف، بطريقةٍ تُشعر أنيسة أنّها تفكّر في شخصٍ أو شيءٍ ما، غير أنّها تفتح لأنيسة نافذةً تطلّ على عالمها. “يمكنك أن تنظري إلى الأمر بتلك الطريقة. لكنّ هناك كلمةً أخرى للمختارات الأدبية، كلمة لم نعد نستخدمها: florilegium. هل تعرفين ما تعنيه في الأصل؟”

تهز أنيسة رأسها، وترمش، جافلةً، بينما يمشي بلودوذ، على جنب، مشيتَه الحكيمة إلى أعلى ذراعها ليحني رأسه، بلطافة، قبالة كتفها. تبسم إزي، بإشراقة أكثر قليلا، لأجل أنيسة، وتقول: “قِطاف أزهار.”

____________________

يطير البوم بصمتٍ يفوق في سكونه أيَّ طائر آخر.

عندما التحق بهم والدُها في لندن بعد ثلاث سنوات، وجد أنيسة وقد نمتْ طولًا فيما ازداد كلامها قِصَرًا. إلحاحُ أمّها على أن تتحدث العربيّة معها كلّ الوقت- بدافع تحسين قدراتها للحديث بلغتها الموروثة إلى أبعد الحدود- كان غالبًا ما يدفعها للصمت المطبق. كان ذلك الصمت فعّالًا في باحة المدرسة، حيث عيناها، نظراتها، الإشاعاتُ حول قواها الغامضة أبقتها مهيبة الجانب بين زملائها؛ لكنه لم يُجدها نفعًا مع أبيها الذي احتضنها إليه بشدّة وأبقاها هناك قريبةً منه إلى أن تدفقّتْ منها الكلمات والدموع في شهقاتٍ متلاحقة.

السنوات القليلة التالية كانت أفضل؛ انتقلوا إلى جزء مختلف من المدينة، وكانت أنيسة قادرة على أن تخلق صداقات في مدرسة جديدة، أن تنفتح، أن تنطلق في الكلام. كانت أحيانًا تحكي قصصًا عن مدى خوف الناس منها، وكيف أقنعتهم بقواها كما لو كانت مزحةً تسخر بها منهم، لا شيئًا قد صدّقته بالفعل.

___________________

البوم يخلّص جسدَه من المادّة التي لا يستطيع امتصاصَها: العظام، الفرو، المخالب، الأسنان، الريش.

“هل ذاك للمدرسة؟”

تتطلّع أنيسة إلى أمّها منصرفةً عن دفتر ملاحظاتها، وتهزّ رأسها بالنفي. “لا، إنّه يخص اللغة الويلزيّة.”

“أوه.” تتوقف أمّها لوهلة، ويمكن لأنيسة أن تراها ذهنيًّا وهي تضع القفازات التي تستخدمها لغرض التعامل معها في مثل هذه المواقف. “ولماذا الويلزيّة؟”

تهزّ كتفيها “تعجبني.”، ثم تضيف، عارفةً أن أمَّها غيرُ راضية، “أحبّ القصص، أريد أن أقرأها بلغتها الأصليّة في النهاية.”

تتردّد أمها. “تدرين، هنالك تراث غنيٌّ في السرد العربي-”

يتلوّى تيارٌ كهربائيٌّ داخلها كأنّ سوطًا يلسع في الهواء، يأخذها على حين غرّة، فتعضّ شفتها من الداخل وتنزف لكي توقفَه، توقفَ هذه القوّة قبل أن تخرج.

“- وأعرف أنّني لا أستطيع أن أشاركك الكثير لكنّي متأكدة أن جدّتك أو خالتك ستحبّان الحديث معك حوله-”

تأخذ أنيسة كتبها وتركض إلى غرفتها كما لو أنّها تستطيع أن تسبق تيّار القوّة المتدفّق داخلها، تقفل الباب، وتحفر أظافرها في جلد ذراعيها، جارّةً خطوطًا ممتدّة طويلة ومؤلمة من أعلى إلى أسفل، لأنّ الأسلوب الوحيد لتفريغ هذه الشحنة إنّما يكون عن طريق الألم، لأنّها إن لم تفعلْ وتؤذي نفسها فإنّها تعلم يقينًا أنها ستؤذي أحدًا آخر.

______________________

يصعب اكتشاف المرض في البوم وتشخيصه حتى يبلغ مرحلة خطيرة.

تعلم أنيسة أن ثمّة خطبًا ما قبل أن ترى القفص الفارغ، من مشية إزي المتمهّلة أمامها، كما لو أنّها تنتظرها.

“بلودوذ مريضة.” تقول إزي، وتشعر أنيسة باندفاعة الجاذبيّة داخل معدتها. “لبضعة أيام، لم تأكل شيئًا. أنا آسفة، لكن لن يمكنك رؤيتها اليوم-”

“ماذا ألمّ بها؟” تبدأ أنيسة باسترجاع الأيام، تعدّها واحدًا واحدا إلى آخر مرّة شعرت خلالها بتدفّق القوّة داخلها، إلى الخاطر الذي مرّ بذهنها في ذلك اليوم، ولم يكن هذا، لم يكن أيَّ شيءٍ على الإطلاق يشبه هذا، لكنّها كانت تمسك المابنجون في يديها-

“لا نعرف حتى الآن. أنا آسفة جدّا أنْ تكبّدتِ عناءَ الطريق-” تتردّد إزي بينما تقف أنيسة، متجمّدةً، تحسّ أنّها تتلاشى في تعاسة، في يومٍ يبعد عنها عامًا وأربعمئة ميل.

____________________

البوم لا يتزواج على أساس شريكٍ واحد لمدى الحياة، وإنْ تكفّل الموت أحيانًا بفعل الفراق.

الذاكرة مثل مصيدة، قفصٌ من الفولاذ يقع فوق رأسها ويفصلها عن الواقع. حينما تهبط عليها الذاكرة فإنّها لا تملك أن تفعل أيّ شيء سوى أن تسترجع وجه أبيها، مرّةً بعد أخرى، مرعوبًا، متألّمًا أكثر من أيّ مرّةٍ رأته فيها من قبل، وكلماتها مثل هراوة تضرب رأسها: “حسنًا، ارحل ومُتْ، أنا لا أبالي، لكن توقّفْ عن العودة إلينا.”

تشعر من جديد بالقوّة تندفع فجأةً، ومرتبكةً، تحاول أن تقيّدها وأن تُبعدَها في آنٍ معًا؛ تتذكّر شكلَ مقبضِ الباب في يدها ذلك اليوم عندما فرّت راكضةً من الشقّة، نازلةً الدّرَج، خارجةً من العمارة إلى أحضان الليل. تحسّ أنّها تتوهّج وتضيء من الحرارة المحترقة داخلها إلى حدّ أنّه لا يمكنها البكاء، تفكّر في أبيها عائدًا إلى بلدٍ، كلَّ يومٍ في الأخبار، كلَّ يومٍ خليطٌ من أعداد الجثث والانفجارات، كلَّ يومٍ مسألةٌ تخصّ آراءَ أشخاصٍ آخرين.

تفكّر كيف أنّه حتى لن يأخذَها معه.

وتشعر، شعورًا لا يمكن تغييره، كأنّها تتنفّس حجارةً عندما رأته لاحقًا ذلك المساء في المستشفى، مغمضَ العينين، شاحبًا، والكلمات تبلغها من عتمةٍ بعيدة تقول إنّه أصيب بجلطةٍ ومات.

_________________

“أنيسة-أنيسة!” أخذت إزي بيديها، تمسكهما، وحينما تستعيد أنيسة حواسّها تشعر وكأنّهما مغمورتان في الماء، تريد أن تسحب يديها خشية أدنى ضرر يمكن أن تُلحقه بإزي لكنّها مشوّشة ومن حيث لا تدري تنفجر في نوبة بكاء فيما تمسك إزي بيديها لتنحدرا معًا راكعتين على الأرضيّة المغسولة بالمطر. تشعر بالحصباء تحت ركبتيها وتطحنهما أبعد وأبعد فيها، لتعاقب نفسها على هذا، هذا الشيء، القوّة، وتحاول أن تجعل إزي تفهم وتحاول أن تقول إنّها آسفة غير أنّه لا يخرج منها سوى هذا النحيب المدمّر، العنيف.

“إنّها أنا” تتدّبر أمرَها بالقول، “أنا من تسبّب لها بالمرض، إنّه خطأي، لم أقصد فعلَه لكنّي أجعل الأحداث السيّئة تحدث بمجرّد أن أريدها، ولو قليلًا، أن أريدها بالطريقة الخاطئة، ولا أريد ذلك بعد الآن، لم أرد هذا قطّ، لكنّه يستمر في الحدوث والآن ستموت-”

تنظر إزي إليها، تعصر يديها، وتقول، هادئةً ومعتدلة، “هراء.”

“إنّها الحقيقة-”

“أنيسة- لو أنّها الحقيقة لاشتغلت على الجهتين. هل في وسعك أن تجعلي أشياء جيدة تحدث بأن تريديها فحسب؟”

تحدّق محتارةً في عيني إزي السوداوين الدافئتين، ولا تستطيع تأطير ردّ على سؤالٍ سخيف كهذا.

“فكّري، يا حيواني المدلّل الأليف- ما الأشياء الجيّدة التي تريدين حدوثها؟”

“أريد-” تغلق عينيها وتعضّ شفتها، تسعى إلى ألمٍ يبطل مفعول القوّة لكنّها تحسّه بشكلٍ مختلف- تحسّ، ويدا إزي تمسك يديها، وجهها في وجهها، كأنّها- إزي- مانع صواعق يمتصّ منها شيئًا إلى الخارج عبر الحصباء إلى ما تحتها تاركًا شيئًا آخر في أعقابه، شيئًا ساطعًا ومصقولًا مثل ضوء شمس على شوارع مبلّلة. “أريد لبلودوذ أن تتحسّن صحتها، أريد أن تعيش حياة هانئة، أن…، أن تكون أيّ شيء تريد أن تكونه وتفعل أيّ شيء تريد أن تفعله. أريد أن أتعلم الويلزيّة. أريد أن- “وجه إزي يومض خلال دموعها. “أريد أن أكون صديقتك. أريد-”

تبتلعها، تبتلع كلَّ الرغبات الطيّبة، كم تفتقد أباها، كم تفتقد الحديث فقط، وبأيِّ لغة، مع أمّها، وكم تفتقد أنوارَ رياق والهواءَ الجافّ الأغبر، الخرفانَ والماعز والدفء، دائمًا، دفء جدّتها وأقاربِها من حولها، وتعمل من ذلك مقتطفات. تجمع أزهارَ رغباتِها كافّةً في حلقها وقلبها، واثقةً أنّها جميعًا رغبات خيّرة.

____________________

الحقيقة بخصوص البوم-

تقف أنيسة مع أمّها عند مدخل مركز البوم، كلتاهما تتأمّلان بالصدفة برّادًا مليئًا بالحلوى المجمّدة بينما تنتظران تذكرتهما. تلتقي الأعين، وتبتسمان لبعضهما. أمّها تفتش عن آيسكريم ’كورنيتو‘ Cornettos بالكارميل في الوقت الذي تلوّح فيه ، راتشيل، موظّفة المبيعات، لأنيسة كي تقترب.

“هل تلك هي أمّك، أنيسة؟” تهمس راتشيل. تهزّ أنيسة رأسها بالموافقة في ذهولٍ لحظيّ، فيما يتهلّل وجه راتشيل. “لقد حزرتُ ذلك. إنّكما تملكان نفسَ الابتسامة بالضبط.”

يتورّد خدا أنيسة، وتنظر للأسفل، خجولةً بصورةٍ مفاجئة. تدفع أمّها قيمةَ التذاكر والآيسكريم، ومعًا تمشيان جهة المخرج ومنطقة النزهة.

تتوقّف أنيسة في طريقها على محلّ الهدايا؛ تلوّح لأمّها أنها ستلحق بها. ولوحدها، تشتري مفكّرة ورقية مغطّاة ببومات معدنيّة لامعة وتبدأ الكتابةَ فيها بقلمٍ مصمّمٍ أعلاه على شكل بوم.

“إنّ الحقيقة عن البوم-” لكنّها تتوقّف. تنظر إلى الكلمات، شكلِها، إملائها، سهولة كتابتها. وتعبس، عاضّةً على شفتها، وبعد لحظة تفكير متأنيّةٍ تكتب
(3) ” -Y gwir am tylluanod”

لكنّ مخزونها من المفردات ينضب، وهذا أمرٌ لا تريد ملاحقتَه في القواميس. هناك دفءٌ يزهر فيها، خيريّةٌ تتدفّق من صدرها حيث اعتادت القوّة أن تجثم، حيث يعيش الآن شيء ما مختلف، أفضل، وتريده أن ينسكب على الصفحة. تدير القلم بين إبهامها والسبّابه، ثم تحوّل مكانَ المفكّرة على راحة يدها.

تكتب “إنّ الحقيقة عن البوم معقّدة” (4) ، وتبتسم.

______________________

(1) بلدة لبنانيّة في محافظة البقاع قربَ زحلة.

(2) النكتة هنا في التورية المصاحبة لاستخدام كلمة woo الإنجليزية حيث إنها تعني أمرين: صوت البوم وفعل المغازلة والتودد.

(3) العبارة نفسها مكتوبة باللغة الويلزيّة.

(4) بالعربيّة، منقولة كما وردت في النص الأصليّ.

1 comments

أضف تعليق